لابد أن الجميع يقترف الأخطاء بين الحين والآخر، فنحن كبشر لسنا معصومين تماما من الخطأ، غير أنه في معظم الأحيان تكون أخطاؤنا طفيفة نادراً ما تتجاوز آثارها دوائرنا الاجتماعية الضيقة. في الجهة المقابلة، كان لبعض الأخطاء الطفيفة عبر التاريخ تداعيات وخيمة. في مقالنا هذا على موقعنا «دخلك بتعرف»، جمعنا لك عزيزي القارئ بعض هذه الأخطاء الطفيفة التي كانت نتائجها جسيمة بشكل مفاجئ:
خطأ في الفاصلة العشرية جعل من السبانخ طعاماً خارقاً:
بفضل شخصية (بوباي) البحّار الكرتونية، حلم الكثير من الأطفال في مرحلة ما من حياتهم بحصولهم على قوى خارقة من خلال تناول السبانخ. اشتهر حب (بوباي) للسبانخ عند شريحة كبيرة من المتابعين. بسبب معتقد شائع يقول بأن السبانخ تحتوي على فوائد خارقة للطبيعة، راح الكثير من الأطفال يستهلكونها بكميات كبيرة، غير أنهم لسوء حظهم لم يحظوا بتلك القوى الخارقة التي كان (بوباي) يحصل عليها لدى تناول السبانخ، لكن كان للقصة جانب مشرق ظهر ليعلّم الناس والأطفال على وجه الخصوص درساً قيّماً وهو: أن لا يصدقوا كل ما يشاهدونه على شاشة التلفاز.
على ما يبدو، فقد كان خطأ رياضياتي بسيط هو ما ألهم صنّاع (بوباي) بأن يركزوا حبه للسبانخ من أجل الحصول على الطاقة والقوة، ففي سنة 1870 أجرى العالم الألماني (إيريك فون وولف) بحثا حول حجم الحديد في السبانخ وبعض الخضروات الأخرى، واكتشف أن كل 100 غرام من السبانخ كانت تحتوي على 3.5 ميليغرام من الحديد. غير أنه لدى كتابته لاكتشافاته، أخطأ في وضع الفاصلة العشرية وبدا وكأن حجم الحديد في 100 غرام من السبانخ كان 35 ميليغراماً. بقي الأمر على هذه الحال إلى غاية سنة 1937 عندما تحقق أحدهم من تلك الأرقام واكتشف الخطأ الكامن في حسابات (فون وولف). بحلول ذلك الزمن، كان (بوباي) قد صار بالفعل أيقونة ثقافية، وثبتت أسطورة السبانخ: طعام القوة والطاقة الخارق.
السبب وراء جعل شكل نوافذ طائرات المسافرين دائرياً:
لقد كانت شركة (بوينغ) في ريادة صناعة طائرات الركاب لمعظم حقبة الرحلات الجوية التجارية تقريباً. غير أنه كان هنالك زمن في أوائل خمسينيات القرن الماضي حيث كانت شركة أخرى تتزعم ميدان الرحلات التجارية، وهي شركة بريطانية حملت اسم (دي هافيلاند)، وكانت شركة (بوينغ) في تلك الحقبة في المرتبة الثانية.
كان السبب في ريادة الشركة الآنفة هو طائرة أنتجتها وأسمتها (كوميت)، وهي أول طائرة تجارية نفاثة في التاريخ، التي طار نموذجها الأولي أول مرة في سنة 1949، ثم نزلت في الأسواق في سنة 1952. كانت طائرة (كوميت) سريعة وسلسة، وكانت ذات مقصورة مريحة جدا، وعازلة للضجيج نسبياً، وكانت تتضمن نوافذ كبيرة الحجم مربعة الشكل، لقد كانت طائرة (كوميت) تتنقل من لندن إلى نيويورك في زمن قياسي قدره ستة ساعات فقط، وكانت أكثر طائرات الركاب الواعدة في العالم آنذاك لدى انطلاقها.
اختار مصممو طائرة (كوميت) النوافذ مربعة الشكل لأسباب جمالية: لقد كانت تبدو أجمل من النوافذ التقليدية دائرية الشكل. لسوء حظ شركة (دي هافيلاند)، وكذا عشرات المسافرين على متن طائرات الـ(كوميت) الذين لقوا مصرعهم في سلسلة من حوادث سقوط الطائرات الآنف ذكرها، لم يكن المصممون آنذاك يفهمون جيدا ماهية ”الكلال المعدني“ —تعب الفلز—
كان الضغط يتراكم في زوايا نوافذ الـ(كوميت) مربعة الشكل، مما تسبب في اختلالات كارثية في هيكل الطائرة أثناء تحليقها، مما نتج عنه حوادث سقوط مميتة. وبما أن طائرات الـ(كوميت) كانت تسقط من على ارتفاعات شاهقة وفي عرض البحار، استغرق أمر اكتشاف مشكلتها بعض الوقت.
بمجرد أن تمكنوا من تحديد الخلل، تم وقف أسطول الـ(كوميت) كاملا ومنع من التحليق مجددا. لم تتعافَ شركة (دي هافيلاند) أبداً من تلك الفضيحة، وبينما أصدرت تصميماً جديداً ذا نوافذ دائرية الشكل وبدن طائرة أكثر متانة، فقد نزلت طائرتا (بوينغ 707) و(دوغلاس دي سي 8) في الأسواق، واصبحت الرائدة في مجال طائرات الركاب التجارية.
سوء تقدير للفوارق الزمنية يتسبب في تحويل معركة غزو خليج الخنازير إلى مسرحية هزلية:
في ربيع سنة 1961، حضّر الكوبيون المقيمون في المنفى، والذين تدربوا على يد القوات الأمريكية، أنفسهم للإطاحة بنظام (فيديل كاسترو). لقد كانوا مقتنعين، أو بالأحرى أقنعوا أنفسهم، أنه لدى نزولهم في كوبا، سيحظون بدعم من القوات الجوية الأمريكية مع كون القوات البحرية الأمريكية خلفهم مباشرة لتحمي ظهورهم. كان في الواقع الغطاء الجوي الذي وُعد به المنفيون الكوبيون عبارة عن دعم من الاستخبارات المركزية الأمريكية بواسطة 16 طائرة من طائرات (بي-26) قاذفة للقنابل من عهد الحرب العالمية الثانية، التي كانت ستحلق انطلاقا من قواعد أمريكية في (نيكاراغوا).
غير أن هذا العدد تقلص إلى النصف بعد أن ارتأى الرئيس الأمريكي آنذاك (كينيدي) أنه يجب الإبقاء على العملية في سرية تامة. في السابع عشر من شهر أبريل سنة 1961، هبط المنفيون الكوبيون في خليج الخنازير، غير أن الغطاء الجوي الذي كان من المفترض أن توفره لهم الطائرات الآنفة الذكر تبين أنه غير مناسب تماماً، ووجدوا أنفسهم عالقين مع البحر من ورائهم وبدون أية وسائل للتراجع للخلف، كما لم يكونوا يحظون بأية فرصة في النجاح والتقدم والتوغل داخل الأراضي الكوبية، ومنه تعرضوا لهزيمة نكراء على يد الكوبيين النظاميين.
كان الغزو المخطط له قد فشل فشلاً ذريعاً، لكن في اليوم الموالي، أمر الرئيس الأمريكي بعدم الاستسلام والمضي قدماً في الخطة. مع كون قوات (كاسترو) قد أصبحت بعد ذلك في حالة تأهب قصوى، فقد كانت كل طائرة قاذفة للقنابل تحاول القيام بمهمتها معرضة لخطر الإسقاط ومنه كان الأمر يتطلب حماية جوية تقدمها لها الطائرات المقاتلة النفاثة.
أمر الرئيس الأمريكي بإرسال ستة طائرات نفاثة مقاتلة تنطلق من حاملة الطائرات الأمريكية (إيسيكس) من أجل توفير حماية وغطاء جوي فوق خليج الخنازير لمدة ساعة من الزمن في يوم الثامن عشر من أبريل، وذلك من أجل حماية قاذفات القنابل التي كانت ستقوم بهجماتها على المنطقة. غير أن هذا الغزو، الذي كان قد تحول من فشل إلى حالة فوضى، كان مقدراً له أن ينتهي بمسرحية هزلية: لقد فوتت الطائرات المقاتلة موعدها مع قاذفات القنابل وذلك لأن البنتاغون أساء تقدير الفارق الزمني بساعة، وهي الساعة التي تفصل زمن كوبا عن زمن قاذفات القنابل المتموقعة في (نيكاراغوا).
عندما سقط جدار برلين بسبب خطأ في التعبير:
لعقود كاملة، وقف جدار برلين كخط فاصل يمثل رمزاً لحدود الحرب الباردة بين المعسكرين، يفصل بين شرق شيوعي كئيب وغرب رأسمالي حيوي منتعش. كان هنالك سبب وجيه لعتاب الرئيس الأمريكي (رونالد ريغن) في خطابه الذي أدلى به سنة 1987 عند زيارته لبرلين الغربية، فقال: ”سيد (غورباتشوف)، اهدم هذا الجدار!“. في تلك الأثناء، قلة من كان بإمكانهم التنبؤ بأنه بعد أقل من سنتين عن ذلك الخطاب سينهار جدار برلين حقاً بشكل باغت كلا من السياسيين والخبراء على حد سواء.
أخذت الشيوعية تتقهقر في أواخر ثمانينيات القرن الماضي في الاتحاد السوفييتي وأوروبا الشرقية، وبدأ قادة الشيوعية في ألمانيا الشرقية يخففون من صرامة القوانين التي تحد من سفريات مواطنيهم. في التاسع من شهر نوفمبر سنة 1989، أقام رئيس الحزب الشيوعي في شرق برلين (غونتر شابوفسكي) ندوة صحفية لشرح بعض المراجعات الطفيفة المتعلقة بقانون السفر، غير أنه أخطأ في الأمر وأوحى سهواً بأن حظر السفر والتنقل قد أزيل تماماً، وعندما سأله أحد المراسلين الصحفيين عن تاريخ سريان هذه القوانين الجديدة، كانت إجابته: ”حالاً، وعلى الفور“.
تصدر الأمر عناوين الأخبار، وعندما سمع سكان ألمانيا الشرقية بذلك، هرعوا إلى الحدود، وطالبوا بحق العبور غير المشروط الذي وعد به زعيم الحزب الشيوعي. لم يكن حرس الحدود قد تلقوا أية تعليمات من هذا النوع، وبدلا من التعامل مع الأمر وكأنه شغب وتمرّد، وقفوا جانباً وتركوا الغوغاء تهدم الجدار في احتفالية كانت أعظم حفلة شوارع في تاريخ برلين على الإطلاق.
مشكلة الأوشحة الطويلة:
كانت الراقصة الأمريكية (إيزادورا دونكن) 1878-1927 مشهورة في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين برقصاتها المشتقة من الفن الإغريقي القديم، وكذا لكونها كانت دائما ما ترتدي أوشحة طويلة متدلية. بدأت مسيرتها المهنية في الطفولة، عندما أخذت تقدم دروساً في الرقص لأبناء حيها الذي كانت تقطنه، ومنذ ذلك الحين برز عنها أسلوب فريد متحرر تميزت به عن قريناتها.
عند بلوغها أواخر مرحلة المراهقة من عمرها، كانت (دونكن) تؤدي العروض في شيكاغو ونيويورك، لكنها لم تكن تشعر بالحرية اللازمة في أمريكا، لذا هاجرت في البادئ إلى لندن، ثم باريس. في الخارج، سطع نجمها وسرعان ما أصبحت واحدة من أشهر الراقصات في العالم كله. لقد نالت شهرة واسعة وفازت بالكثير من الجوائز والتشريفات، وانتهى بها الأمر في العيش في غرب أوروبا والاتحاد السوفييتي منذ سن الثانية والعشرين إلى غاية وفاتها سنة 1927.
في الرابع عشر من سبتمبر سنة 1927، كانت (دونكن) بصدد تجربة سيارة جديدة في (نيس) في فرنسا، وتماما مثلما كانت تفعله دائما، كانت ترتدي واحدا من أوشحتها المميزة الحريرية الطويلة. للأسف الشديد، هبت رياح قوية ورمت بطرف الوشاح الطويل خارج السيارة حيث انتهى تحت العجلات المتحركة فعلق وسحب بقوة (دونكن) من عنقها خارج السيارة، فكسرت عنقها ولقيت حتفها على إثر ذلك.
لم تكن وفاة (دونكن) أول حادثة سيارة تتعرض لها أو تتأثر بها حياتها، بل مثلت الحلقة الأخيرة فقط من مسلسل كامل من حوادث المرور، الذي بدأ في سنة 1913 عندما غرقت سيارة كانت تقل طفليها الوحيدين بعد انحرافها عن الطريق في نهر السين فماتا غرقاً. لاحقا في نفس السنة، تعرضت (دونكن) لجروح بليغة في حادث سيارة تعرضت له، وفي (لينينغراد) في الاتحاد السوفييتي سنة 1924 تعرضت لحادث سيارة آخر كاد يودي بحياتها. في مناسبة أخرى، نجت من الموت غرقاً بأعجوبة عندما انحرفت سيارتها وسقطت في نهر.
ربما كان قصف اليابان بالقنابل النووية ناتجاً عن خطأ في الترجمة!
بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، تداول العالم أسطورة تفيد بأن قصف اليابان بالسلاح النووي لم يكن ضرورياً، ذلك أن اليابان كانت تتقهقر جاثمة آنذاك وكانت على شفير الاستسلام في أية لحظة. وتستمر الأسطورة بأن كل ما كان على الحلفاء القيام به هو محاصرة اليابان لمدة من الزمن مما سيجعلها تعلن استسلامها لا محالة.
لكن هذا لم يكن ليحدث إلا في حالة ما انحصرت الحرب في جزر اليابان وحدها حيث كان بالإمكان عزل اليابانيين داخل أراضيهم عن العالم الخارجي. للأسف، لم يكن الأمر على تلك الحال وبتلك البساطة، فباقتراب موعد نهاية الحرب كانت اليابان لا تزال تمثل إمبراطورية واسعة الرقعة في المحيط الهادي وآسيا، حيث أجبرت مئات الآلاف على تحمل معاملة واحتلال وحشيين، ناهيك عن كون ملايين الجنود اليابانيين كانوا مازالوا يقاتلون قوات الحلفاء في الصين وبورما، وفي المحيط الهادي.
سواء تم حصار البر الرئيسي في اليابان أم لا، كانت الحرب لتضل قائمة خارجها، أضف إلى ذلك أن اليابانيين كانوا يحتفظون بمئات الآلاف من أسرى الحرب من قوات الحلفاء، وكانوا يخضعونهم لمعاملات وحشية بصورة يومية. باختصار، كان كل يوم تواصل فيه الحرب اشتعالها يوماً آخر يعاني فيه الملايين على يد اليابانيين، وكان الآلاف يُقبرون.
من وجهة النظر هذه، لم يخطئ الحلفاء وعلى رأسهم الولايات المتحدة في معاملة اليابان على أنها عدو خطير يجب الإطاحة به في أقرب وقت ممكن وإلا سيستمر في إلحاق الضرر بكل ما تطاله يداه إن ترك حراً. غير أن خطأ ترجميا بسيطا قد يكون السبب الذي حدد زمن وكيفية شروع الولايات المتحدة في قصف اليابان بالقنابل النووية، ولربما يكون ذلك أسوأ خطأ ترجمي في التاريخ.
أفدح خطأ ترجمي في التاريخ:
وقع أفدح خطأ ترجمي في التاريخ على خلفية ما عرف بـ”إعلان مدينة (بوتسدام)“ في صيف سنة 1945. حدد هذا الإعلان شروط استسلام الإمبراطورية اليابانية خلال الحرب العالمية الثانية من طرف الحلفاء في السادس والعشرين من يوليو سنة 1945، وذلك بعد عشرة أيام فقط من قطف ثمار مشروع (مانهاتن) واختبار أمريكا لأول قنبلة ذرية في التاريخ.
أصدرت الولايات المتحدة الأمريكية، إلى جانب دول الحلفاء، تصريحاً صارماً دعت فيه القوات المسلحة اليابانية إلى الاستسلام. لقد كان بمثابة إنذار نهائي حذرت فيه اليابانيين أنه في حالة لم يستسلموا في الحال فسيواجهون دماراً آنياً. ناقشت الحكومة اليابانية مطولاً شروط الاستسلام الواردة في إعلان (بوتسدام)، وعلى إثر ذلك عقد رئيس الوزراء الياباني (كانتارو سوزوكي) مؤتمراً صحفياً أعلن فيه أن اليابان فيما يتعلق بإعلان (بوتسدام) سـ: ”(موكوساتو)“، و(موكوساتو) هي كلمة يابانية فحواها أن رئيس الوزراء الياباني قد ”فهم“ رسالة الحلفاء بوضوح وأنه ”سيأخذها بعين الاعتبار بشكل جدي للغاية“.
لسوء الحظ، تعتبر اللغة اليابانية من أصعب لغات العالم وأكثرها دقة، وفي هذه الحالة كانت تتطلب دقة كبيرة في الترجمة، حيث يصادف أن لمصطلح (موكوساتو) تأويلات وتراجم أخرى، من بين هذه المعاني والتأويلات المحتملة الأخرى —والتي لم يكن رئيس الوزراء يريدها بالطبع— هي ”التجاهل الشديد“.
لقد كان هذا المعنى الأخير الذي أوصله المترجمون للرئيس الأمريكي (هاري ترومان). تناقلت وكالات الأنباء العالمية نبأ رد الحكومة اليابانية على كون الإنذار النهائي المقدم لها من طرف الحلفاء: ”ليس جديراً بالتعليق عليه“. بعد عشرة أيام، حلقت قاذفة القنابل الأمريكية (بي-29) التي حملت اسم (إينولا غاي) من (تينيان) لتلقي بالقنبلة الذرية على مدينة (هيروشيما)، وبعد أيام قليلة لاحقاً، ألقت قاذفة القنابل (بوكسكار) قنبلة ذرية أخرى على مدينة (ناكازاكي).
أن تضع ثقة زائدة في لباقة أعدائك الأدبية وتراهن على شرفهم:
في سنة 1805، كان (نابليون بونابارت) يعسكر بمعي ”جيشه العظيم“ على طول القناة الإنجليزية، وكان في انتظار أن تسنح له فرصة مناسبة لعبورها وغزو بريطانيا، في تلك الأثناء وصلته أنباء عن أن الروس والنمساويين قد أعلنوا الحرب على فرنسا. لذا وضع مخططاته في غزو واحتلال بريطانيا جانباً وسار سريعاً بجيشه نحو الجنوب، وهو الزحف الذي انتهى بأسر الجيش النمساوي كاملاً في ما سماه التاريخ بـ”حملة (أولم)“.
تراجع الروس حلفاء النمساويين إلى الضفة الشمالية من نهر الدانوب، وأملوا الحصول على الوقت الكافي من أجل إعادة تجميع وحداتهم وتوحيد جهوداتهم وذلك من خلال جعل النهر بينهم وبين الجيش الفرنسي الذي كان يطاردهم. من أجل السهر على ضمان بقاء الجيش الفرنسي على الضفة الأخرى من النهر، تم تفجير وتدمير جميع الجسور الرابطة بين ضفتي الدانوب أو تفخيخها وتلغيمها بالمتفجرات من أجل تفجيرها في حالة اقتراب الفرنسيين منها.
في تلك الأثناء، كانت مفاوضات السلام تجري على قدم وساق بينما راح الفرنسيون يقتربون من العاصمة النمساوية (فيينا) على نهر الدانوب. لذا حتى لا يضروا بالمفاوضات ومساعي السلام، وحتى لا يتبين لاحقاً أن الأمر لم يكن ضرورياً في حالة ما نجحت المفاوضات في عقد السلام، عزفت السلطات النمساوية عن تفجير جسور (فيينا) فوق نهر الدانوب، وبدل ذلك، قامت بتفخيخها بالمتفجرات في حالة ما حاول الفرنسيون الاستيلاء عليها عنوة.
كان من بين هذه الجسور المفخخة جسر (تابور)، الذي جُعل تحت حماية وإشراف الكونت (أوسبورغ). مثلما تبين لاحقاً، سيندم النمساويون ندما شديداً على اليوم الذي قرروا فيه عدم تفجير الجسور، كما سيندمون ندما كبيراً على اختيارهم للقائد العسكري المشرف على جسر (تابور)، الذي سيندم هو الآخر كثيراً على اعتماده وثقته في اللباقة الأدبية والشرف عند تعامله مع العدوّ.
أن تثق أكثر من اللازم في شرف الأعداء:
مع كون مفاوضات السلام تجري على قدم وساق، التي أسدلت ستاراً من عدم اليقين في احتمال انتهاء العدوانية في أية لحظة، اقتربت مقدمة الجيش الفرنسي من جسر (تابور) على مشارف العاصمة النمساوية (فيينا) في الثالث عشر من نوفمبر 1805 وعسكرت هناك. قام اثنان من أذكى ضباط جيش نابليون، وهما (واكيم مورات) و(جون لان)، بالاقتراب بشكل عفوي والسير على الجسر، وأثناء ذلك تظاهرا بعدم الاكتراث بأي مما يحيط بهما. بينما وجه الجنود النمساويون الحائرون ببنادقهم ناحية الضابطين الفرنسيين، تابع هذان الأخيران تظاهرهما بعدم الاكتراث، ثم ضحكا وعبرا عن فرحتهما بمعاهدة السلام التي قد تم توقيعها للتو بين النمسا وفرنسا، فطلبا رؤية الكونت (أوسبورغ)، وتساءلا ما إن كان قد ذهب بنفسه ليحضر مراسم الاحتفال بمعاهدة السلام.
بينما تم إرسال جندي لجلب الكونت (أوسبورغ)، راح الضابطان الفرنسيان يتبادلان أطراف الحديث مع الجنود النمساويين من أجل صرف انتباههم عن الجنود الفرنسيين الذين أخذوا يتسللون عبر الجسر الواحد تلو الآخر بروية. اشتبه رقيب في الجيش النمساوي في هذا المخطط وهدد بتفجير الجسر مشعلا فتيل إحدى القنابل، فسارع (لان) إلى إخماد الفتيل ووبخ الرقيب على محاولته تدمير ملكية عمومية، ثم جلس على المدفع وراح يدخن غليونه.
عندما وصل الكونت (أسبورغ)، صدق القصة على الفور، وعندما احتج الجندي الذي اشتبه في الأمر، وبخ الضابطان الفرنسيان (أوزبورغ) على سماحه لأحد جنوده بالتصرف بعدم انضباط والتحدث بطريقة غير لائقة إلى ضابطين رفيعي المستوى وكذا تهديد معاهدة السلام بين البلدين. اقتنع (أوزبرغ) وأمر باعتقال الرقيب ثم سلم زمام أمور الجسر للضباط الفرنسيين.
استخدم الفرنسيون الجسر لعبور الدانوب ثم في أقل من شهر سحقوا الجيشين الروسي-النمساوي مجتمعين في واقعة (أوستيريليتز) التي تعتبر من أعظم انتصارات الدهاء العسكري لـ(نابليون بونابارت) خلال مسيرته. حوكم الكونت (أوزبرغ) المسكين وثبتت إدانته بعدم الكفاءة وأُعدم رمياً بالرصاص.
الثكنة التي قضي عليها عن بكرة أبيها بسبب تجاهل قائدها لرسالة تحمل تحذيراً:
لم تكن مراهنة القوميين الأمريكيين على الحرية والاستقلال عن بريطانيا تجري على ما يرام بحلول نهاية العام 1776، لقد تفوق عليهم العدو الإنجليزي في العدة والعتاد، وكانوا يتعرضون لهزائم نكراء على اليمين وعلى الشمال، وتركزت معظم نقاط انتكاساتهم في مدينة نيويورك، حيث نجوا في إحدى المرات بأعجوبة من الإبادة التامة على يد الإنجليز.
كانت معنوياتهم منحطة، لذا قرر (جورج واشنطن) التخطيط لغارة مفاجئة وسريعة لإحراز نصر سريع من أجل استرجاع الثقة في النفس بين جنوده وكذا شحذ هممهم من جديد. من (بينسلفانيا)، ارتأى واشنطن عبور نهر (ديلاوير) من أجل الهجوم المفاجئ على المرتزقة (الهيسيانيين) في (ترينتون) بولاية (نيوجيرسي) وتدميرهم.
في ليلة 25 ديسمبر، صعد القوميون الأمريكيون بمعنوياتهم المتدنية –كانوا يشعرون بالبرد والجوع– في قوارب صغيرة من أجل عبور النهر، تسبب سوء الطقس وحالة النهر الذي كان أقرب إلى التجمد في الحيلولة دون عبور فيلقين اثنين، لذا وصل (واشنطن) إلى الضفة الأخرى بمعية 2400 رجل فقط، أي أقل بـ3000 رجل مما خطط له.
لحسن حظهم، لم يعترض سبيلهم أحد بينما قطعوا مسافة 15 كيلومتر نحو (ترينتون) دون حتى إثارة انتباه العدو الذي كان غافلاً. باغت القوميون الأمريكيون الـ(هيسيين) المرتزقة، وفي نصر سريع، أسقطوا ألفاً من أعدائهم بين قتيل وجريح وأسير، ولم يفقدوا من صفوفهم سوى قتيلين اثنين وخمسة جرحى.
أصيب قائد الهيسيين (يوهان رال) إصابة بليغة لقي على إثرها مصرعه، وفي جيب سترته عُثر على رسالة من أحد المزارعين الموالين للبريطانيين، الذي كان قد رصد تحركات جيش (واشنطن) وقام بإرسالها لتحذيره من قدومهم، وكانت الرسالة لا تزال مغلقة عندما عُثر عليها.
كانت معركة (ترينتون) معركة صغيرة، لكن كانت تبعاتها عظيمة، حيث ألهمت القوميين الأمريكيين عندما كانوا في أمس الحاجة لشحنة عاطفية ترفع من معنوياتهم الهابطة، كما أنقذت جيشهم من التفكك من خلال جذب مجنّدين جدد، وكبحت مدّ الفرار من الجندية من خلال إقناع الكثير من المقاتلين القدماء بالالتزام بالقضية وعدم فقدان الأمل.
عندما اكتشف الإنجليز أنه إن زاد الشيء على حده ينقلب على ضده لا محالة:
أحياناً، عندما نبالغ من الأمور الجيدة تتحول وتصبح سيئة، وذلك كان ما اكتشفته البحرية الملكية البريطانية في قضية سفينة (ماري روز) الحربية. تم إنتاج هذه السفينة في سنة 1511، وكانت من أولى السفن الحربية التي أحدثت ثورة في الحروب البحرية من خلال استخدامها للمدافع بطريقة جديدة كلياً.
بدلا من وضع مدافعها على سطح السفينة العلوي مثلما كان معمولا به منذ أجيال، وضع مصمموا (ماري روز) مدافعها على السطح السفلي وكانوا يطلقونها عبر فتحات جانبية على بدن السفينة. على إثر ذلك، كانت (ماري روز) من بين أولى السفن التي غيرت شكل الحروب البحرية من تلك الغارات التي تتركز على الاصطدام بسفينة العدو ثم الصعود على متنها والاستيلاء عليها في مواجهات مباشرة بين الرجال، إلى الاعتماد الكلي على المدفعية الثقيلة الموزعة على جوانب السفينة.
كانت سفينة (ماري روز) الحربية تمثل نجاحاً ساحقاً، ومنحت البحرية الملكية عقوداً من الخدمة القوية، ثم في سنة 1536، خضعت لإعادة تصميم ”رديء“ أراد به مصمموها تحديثاً. يبدو أن المنطق الذي دفع بإعادة تصميمها وتحديثها كان يتمحور حول مبدأ: ”بما أن المدافع كانت جيدة، فإن المزيد من المدافع أمر رائع!“. في حد ذاته، لا عيب يشوب هذا المبدأ، لكن المشكلة تكمن –مثلما سيكتشفه الإنجليز لاحقاً– في أن إضافة المزيد من المدافع لسفينة ما سيمثل خطأً فادحاً في حالة لم تكن تلك السفينة مصممة خصيصاً لاحتواء المزيد من المدافع، وذلك راجع أساساً للوزن الإضافي الذي ستفرضه هذه المدافع الجديدة عليها.
مازاد عن حده انقلب إلى ضده:
تضمن تحديث وإعادة تصميم (ماري روز) إضافة سطح جديد يحمل المزيد من المدافع، غير أن إضافة المزيد من المدافع الثقيلة رفع وزن السفينة الكلي من 500 طن إلى 700 طن. جعل هذا سفينة (ماري روز) تبحر على مستوى أخفض في المياه، مما أدى بدوره إلى جعل السطح الأدنى الذي حمل المدافع الإضافية والفتحات التي كانت تطل منها هذه الأخيرة على مقربة جدا من مستوى المياه.
اكتُشف لاحقاً أن ذلك كان عيباً كبيراً في معركة (سولنت) سنة 1545. في تلك الواقعة، انضمت سفينة (ماري روز) إلى أسطول من السفن الإنجليزية الجامحة في (سولنت). أصبح ذلك الأسطول عاجزاً عن الحركة بسبب عدم توفر الرياح اللازمة للإبحار، وفجأة باغته أسطول من السفن الحربية الفرنسية ذات المجاديف، وجدت السفن الإنجليزية نفسها في مأزق كبير، وبدا وكأن السفن الفرنسية كانت على وشك الانتصار على الأسطول الإنجليزي العاجز عن الحركة.
لحسن حظ الإنجليز، هبت الرياح في نهاية المطاف، فركب الأسطول بمعية (ماري روز) موجتها وأطلق هجوماً مضاداً على الفرنسيين الذين وجدوا أنفسهم في مشكلة عويصة الآن. لسوء حظ (ماري روز) وطاقمها، فقد لاقت نهايتها عند أول اختبار حقيقي لها في الميدان بعد تحديثها، حيث مالت بشكل كبير نحو ميمنتها التي احتوت على المدافع الإضافية، مما جعل فتحات إطلالة مدافعها التي سبق وقلنا أنها أصبحت قريبة من سطح البحر تنغمس في المياه فتدفقت مياه البحر بقوة إلى داخل السفينة من ذلك الجانب، وازداد ميل السفينة لدرجة أن الطاقم لم يستطع القيام بشيء لتصحيح اختلال التوازن المفاجئ هذا. تزحلقت المدافع والذخيرة والأمتعة إلى الجانب الغارق من السفينة مما زاد الوضع سوءاً، وقبل أن يمضي وقت طويل، غرقت سفينة (ماري روز) في قاع البحر آخذة معها تسعة أعشار طاقمها.
مجموعة من الأخطاء الصغيرة تؤدي بغارة ناجحة نظرياً إلى فشل فادح:
في سنة 1943، خطط قادة سلاح الجو الأمريكي لغارة جوية على مدينة (بلويشت) في رومانيا التي كانت تحتوي على حقول نفط ومعامل لتكريره، وهي المعامل التي كانت تزود آلة الحرب النازية بثلث احتياجاتها من الوقود. تقرر إرسال قاذفات قنابل (بي-24) الثقيلة بدون مرافقة من طائرات مقاتلة في رحلة جوية على مسافة 3000 كلم شمالاً انطلاقا من ليبيا عبر البحر الأبيض المتوسط، ثم التوجه نحو الشمال الشرقي باتجاه (بلويشت) بمجرد الوصول إلى الساحل اليوناني.
في الفاتح من أغسطس سنة 1943، الذي عرف لاحقاً باسم ”الأحد الأسود“، انطلقت 177 طائرة (ليبيرايتور) —بي-24— من القواعد الجوية الليبية التابعة للحلفاء. التزم سرب الطائرات هذا بالصمت التام من خلال عدم تشغيل الراديو إطلاقاً، وحلق على ارتفاع خمسين قدماً أو أقل وذلك من أجل تجنب الرادارات الألمانية، حلق سرب الطائرات هذا بنجاح وسرية فوق البحر الأبيض المتوسط دون أن يتم رصده، ثم غير ارتفاع تحليقه لمجرد قمم الأشجار لدى وصوله إلى الأجواء الأوروبية.
تفطن الألمان لهذا السرب ونفذوا خططهم الدفاعية مما أفشل المخطط وجعله من بين أسوأ الغارات الجوية وأفشلها في تاريخ سلاح الجو الأمريكي، وذلك كله بعد سلسلة من الأخطاء الصغيرة. أولاً، وقع خطأ في الملاحة الجوية جعل بعض قاذفات القنابل الأمريكية تحلق مباشرة فوق مواقع دفاعية ألمانية، ثم تحطمت قاذفة قنابل في موقع قائد سرب مما جعل الطائرات التابعة لها تنتشر بشكل فوضوي في اتجاهات مختلفة، فوصلت إلى أهدافها مبعثرة بدلاً من المحافظة على عامل التزامن.
لدى رؤيته للاضطراب الحاصل في تشكيلة السرب التابع له، قام قائد أحد أفواج قاذفات القنابل بالإخلال بقاعدة الصمت الراديوي، وقام بتشغيل الراديو من أجل أن يبعث برسالة لبقية الطائرات التابعة له بأن تبلغ كل منها هدفها على حدى وتلقي عليه ما استطاعت من القنابل، فتسبب هذا في الفت انتباه الألمان الذين خرجوا للقاء الطائرات المغيرة، ففتحت النار عليها مئات المدافع المضادة للطيران، وكذا المدفعيات الثقيلة، وحتى قطارات مصممة خصيصاً لتنفتح عرباتها كاشفة عن مدفعية ثقيلة مضادة للطيران، ناهيك عن خروج الطائرات المقاتلة الألمانية التي أمطرت السرب بوابل من النيران القاتلة.
ومما زاد الوضع تعقيداً هو تحليق قاذفات القنابل الأمريكية على علو منخفض ما جعل الدخان المنبعث من المداخن الصناعية في الموقع يؤثر على ملاحتها ويخل بوصولها لأهدافها وإصابتها بدقة.
من بين الـ177 طائرة التي انطلقت في هذه المهمة في ذلك اليوم وصلت 162 منها فقط لـ(بلويشت). من بين كل تلك التي وصلت للموقع المنشود، تم إسقاط 53 وتسجيل 660 ضحية من رجال طواقمها. لم تتمكن من العودة سوى 109 طائرات التي أصبحت 58 منها في حالة لا تسمح لها بالتحليق مجددا أبداً. أما الجانب الألماني النازي، فقد تمكن من إصلاح الأضرار، وخلال أسابيع قليلة ارتفع إنتاج الوقود في (بلويشت) أعلى مما كان عليه قبل الغارة الفاشلة.
غارة مقدامة لتحرير سجناء الحرب تنتهي مبكراً بسبب خطأ غبي:
كانت تلك ليلة العشرين من شهر نوفمبر سنة 1970، تجمعت في هذه الليلة مجموعة تتكون من 56 من جنود القوات الخاصة الأمريكية، أو كما يطلق عليها اسم ”البيريهات الخضر“، في قاعدة عسكرية أمريكية في تايلاندا. تحقق هؤلاء الجنود المغاوير للمرة الأخيرة من مرتّبات الخطة ليتأكدوا من أن كل شيء كان مضبوطاً وفقاً للمخطط، ابتداء من تعليمات المهمة السرية، وانتهاء بالتحقق من المعدات وما إلى ذلك.
الآن أصبح الرجال جاهزين لواحدة من أكثر الغارات الطموحة في حرب فييتنام. صعد رجال القوات الخاصة بعدها على متن الطائرات المروحية التي طارت بهم من القاعدة التايلاندية من أجل تنفيذ ”عملية ساحل العاج“، وهي مهمة إنقاذ جريئة للغاية، كان الهدف منها هو تحرير حوالي 65 من الجنود الأمريكيين المسجونين في فيتنام في معسكر (سون تاي) للاعتقال الواقع على بعد 30 كيلومتر عن العاصمة الفيتنامية (هانوي).
لقد كانت تلك عملية محفوفة بالمخاطر بشكل استثنائي، وكان فيها عاملا السرعة والدقة ضروريان للغاية من أجل ضمان نجاحها. كان هناك حوالي 12 ألف جندي من جنود شمال فيتنام الأعداء مخيّمين على بعد ثمانية كيلومترات من موقع معسكر الاعتقال المستهدف، لذا كان من الضروري جدا أن ينهي المغيرون مهمتهم العسكرية بسرعة ثم يحلقوا بعيداً قبل أن يقوم العدو بردة فعله ويرسل إليهم بأعداد هائلة من الجنود، أكثر مما قد يتحملونه.
انقسم فريق الإنقاذ هذا إلى مجموعات نزلت بشكل متفرق في (سون تاي)، فنزلت المجموعة الأولى بالطائرة المروحية في وسط المعسكر عمدا من أجل التموقع بأسرع وقت ممكن. بينما حطت المروحية الثانية خطأً على بعد 400 ياردة عن الموقع المنشود وذلك بالقرب من مقر الحراس، فهاجمت مقرات الحراس بسرعة البرق وقتلت أو جرحت حوالي 100 منهم. بينما أنزلت المروحية الثالثة مجموعة الجنود الأخيرة خارج المعسكر من أجل تأمين الموقع والإحاطة به، حتى الآن جرت المهمة وفقاً للمخطط، غير أن المشكلة الوحيدة تكمن في أن السجن كان خالياً من أي سجناء!
فشل استخباراتي كبير:
من وجهة نظر تكتيكية، كانت عملية ”ساحل العاج“ العسكرية تمثل نجاحاً باهراً، فقد أدت مهمتها المتمثلة في الاستيلاء على معسكر الاعتقال والسيطرة عليه في غضون دقائق معدودة على أكمل وجه. لم تسجل سوى إصابتان في صفوف القوات الخاصة، حيث أصيب أحد الرجال في ساقه برصاصة بينما كسر الثاني كاحله، غير أن خلو المعسكر من أي مساجين لإنقاذهم جعل كل هذا النجاح والفعالية في الأداء يذهب أدراج الرياح.
على ما يبدو، فقد كان ما أخل بنجاح المهمة هو اعتمادها على معلومات استخباراتية قديمة نوعاً ما، فقبل أشهر من الشروع في العملية، تمت إعادة نقل مساجين الحرب من ذلك المعسكر إلى معسكر آخر، والسبب يكمن في كون معسكر (سون تاي) متاخماً للنهر الذي يرتفع منسوب مياهه في ذلك الوقت من السنة مما يعرض المعسكر لخطر الفيضان، لذا أُعيدَ ترحيل المساجين إلى معسكر اعتقال آخر، وبعد 26 دقيقة من نزولهم في (سون تاي)، حلق رجال القوات الخاصة مجددا عائدين إلى القاعدة العسكرية.
كان هذا الهجوم العسكري ناجحاً من الناحية التكتيكية، لكن المهمة في لبّها مثلت فشلاً ذريعاً. وقع اللوم بشكل كامل على عاتق ”وكالة المخابرات لدى وزارة الدفاع“، وبعض الهيئات الأخرى المسؤولة عن جمع وتوفير المعلومات الاستخباراتية التي بنيت عليها الغارة. غداة ”عملية ساحل العاج“، تعرضت مصادر المخابرات للكثير من النقد بسبب تسببها في الأمر بمهمة عسكرية محفوفة بالمخاطر دون جدوى، خاصة عند التفكير في أنها أرسلت برجال خاطروا بحياتهم لإنقاذ وتحرير سجناء من معسكر اعتقال خالٍ من أي سجناء! فقاد كل هذا النقد إلى إعادة هيكلة واسعة على مستوى وسائل المخابرات التي أعيد بناؤها من جديد.
مجموعة أخطاء صغيرة جعلت جيشاً كاملاً يحارب نفسه ويهزمها ويفرّ منها!
لم يسبق للتاريخ أن شهد تراكم مجموعة من الأخطاء الصغيرة وتسببها في نتائج كارثية مثلما حدث في معركة (كارانسيبيس) سنة 1788. حدث هذا التظافر في سوء التدبير والأخطاء الغبية خلال الحرب التركية – النمساوية التي جرت وقائعها بين سنتي 1787 و1791. أسفرت عما قد يكون أغرب حادث تعرّض لنيران صديقة في التاريخ. خلال هذه الحادثة، تمكن الجيش النمساوي بطريقة ما من قتل وجرح 10 آلاف من جنوده، بالإضافة إلى ذلك، تراجع الجيش وتبعثرت صفوفه وفقد تشكيلته وانضباطه عندما ساده الارتباك، هذا كله دون حتى تواجد أي جندي من جنود الأعداء بمقربة منه.
عرف عن سلالة (هابسبرغ) الحاكمة في الإمبراطورية النمساوية بعدها كل البعد عن الدهاء العسكري والتخطيط الحربي، وبدل ذلك تمكنت من السيطرة على إمبراطورية مترامية الأطراف من خلال سلسلة من الزيجات الاستراتيجية.
لقد لخصت الإمبراطورة (ماريا تيريزا) استراتيجية إمبراطوريتها بشكل ممتاز في قولها: ”بينما تدخل الأمم الأخرى في صراعات حربية، تدخل النمسا المحظوظة في زواج استراتيجي“. غير أن هذا الأمر تغير في مرحلة ما من تاريخ الإمبراطورية، بينما راح قادتها يبحثون عن المجد العسكري في الساحة الدولية.
حكم آل (هابسبرغ) إمبراطورية مترامية الأطراف تضم مجموعات عرقية مختلفة، وقد استظهر هذا التنوع العرقي نفسه في صفوف الجيش الإمبراطوري بشكل سلبي. كان جيش آل (هابسبرغ) يتشكل من وحدات من مجموعات عرقية مختلفة، التي لم يكن معظمها قادراً على فهم لغة الآخر، وهو الأمر الذي سيلعب دوراً مفتاحياً في المهزلة التي سيتعرض لها الجيش في ليلة 21 سبتمبر سنة 1788.
مثل كرة ثلج تزداد حجماً مع كل دحرجة
عند ساعة الغسق من يوم 21 سبتمبر سنة 1788، تحرك الفرسان الهنغاريون التابعون للجيش النمساوي ناحية نهر الـ(تيميس) في مهمة استكشافية. لم يعثروا على أي أعداء أتراك، لكنهم عثروا على بعض الغجر هناك، الذين باعوا للفرسان كمية من النبيذ جعلتهم يثملون للغاية.
بينما كان الفرسان يحتفلون مع أصدقائهم الغجر الجدد، شعر القائد الذي أرسلهم في مهمة الاستكشاف بقلق متزايد بسبب تأخرهم في العودة، لذا أرسل ببعض الجنود المشاة ليعبروا النهر ويتحققوا من الأمر، التقى المشاة بالفرسان، وطلبوا منهم مشاركتهم المشروب والاحتفال معهم، لكن الفرسان رفضوا ذلك مما أسفر عنه شجار سرعان ما تصعد ليتحول إلى تبادل لإطلاق النار.
خلال ذلك، قرر أحد الجنود المشاة أن يصرخ ”أتراك أتراك“ من أجل صرف انتباه الفرسان والمشاة المتناحرين عن بعضهم البعض ووقف إطلاق النار، تسبب هذا في هلع وسط الفرسان الهنغاريين، لكن لسوء الحظ جاءت صيحات الجندي على مسامع جيش المشاة المخيم على الضفة الأخرى من النهر، والذي لم يكن أفراده على دراية بأن المشاجرة كانت تجري بين رفاقهم.
تحول انتباه كامل معسكر الجيش النمساوي ناحية تلك الفوضى وإطلاق النار في الجهة الأخرى من النهر. سارع الفرسان الهنغاريون والمشاة بالعودة إلى معسكرهم مذعورين وراحوا يصرخون ”أتراك! أتراك“، لكن الجنود المكلفين بحراسة المعسكر كانوا يتكلمون لغة أخرى تماماً فصاحوا فيهم: (هالت! هالت) مما يعني ”توقفوا“، لكن لسبب ما ظن الآخرون أنهم سمعوا ”الله الله“، في تلك الأثناء استنتج أحد ضباط المدفعية أن المعسكر كان يتعرض لهجوم العثمانيين فأمر المدافع بأن تفتح نيرانها عليه.
استيقظ الجنود النائمون على صوت المعركة وتبادل إطلاق النار ودوي المدافع، فارتبكوا وبدأ بعضهم بإطلاق النار بطريقة عشوائية. خلال دقائق معدودة، انتشر الذعر والارتباك وإطلاق النار العشوائي على طول المعسكر، وسرعان ما صارت فيالق كاملة تطلق النار على بعضها البعض قبل أن ينتهي الأمر بالجيش كله بالتفكك والانتشار في مختلف الاتجاهات.
وصل الأتراك بعد يومين ليعثروا على عشرة آلاف جندي نمساوي ساقط بين قتيل وجريح في معسكرهم المهجور.
TTT